[align=center]حكم العلاج بالنُّشْرَة المحرمة
تعريف النشرة
قال أبو السعادات: النُّـشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من كان يظن أن به مساً من الجن، سميت نُشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.
وقال ابن الجوزي: النُّشْرَة حل السحرعن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
نوعا النشرة
1. نشرة بالرقى والتعاويذ والدعوات المباحة، فهذه جائزة ومشروعة.
2. نشرة محرمة، وهي حل السحر بمثله، أوالعلاج بالسحر، والاستعانة بالشياطين، واستعمال الرقى الشركية.
بعد أن أجمع أهل العلم على جواز النُّشْرَة الشرعية اختلفوا في حكم ذهاب المضطر المسحور والمعيون ونحوهما، الذين لم يجدوا من يعالجهم مما بهم من أدواء على قولين، فمنهم من أجاز الذهاب، منهم سعيد بن المسيب، ويُحمل كلامه على ما لا يعلم أنه سحر، ومنهم من منع، منهم الحسن البصري.
قال ابن القيم رحمه الله: (النُّشْرَة حل السحر من المسحور، وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور، والثاني النُّشْرَة بالرقية، والتعوذات، وأدوية مباحة، فهذا جائز.
ومما جاء في صفة النُّشْرَة الجائزة ما روى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، الآية التي في سورة يونس: "ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين" إلى قوله: "ولو كره المجرمون"، وقوله: "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون" إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: "إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى".
وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل67، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
وقال: ومن الرقى التي ترد العين، ما ذكر عن أبي عبد الله التَّنَّاحي أنه كان في بعض أسفاره للحج أوالغزو على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن؛ فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل؛ فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها، وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه؛ فدُلَّّ، فوقف عليه، وقال: بسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس68، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، "فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير"؛ فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها).69
روى ابن عبد البر بسنده إلى الأسود قال: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّشْرَة، فقالت: ما تصنعون بالنشرة والفرات إلى جانبكم، ينغمس فيه أحدكم سبع انغماسات إلى جانب الجرية؟!
وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الرجل يأبق له العبد أيؤخذه؟ فقال سعيد: قد وخذنا فما رد علينا شيء، أورد علينا شيئاً.
وروي عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن النُّشْرَة، فكره نشرة الأطباء70، وأما شيء تصنعه أنت فلا بأس.71
وعن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه، قال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع.
وقال أحمد: رخص فيه بعض الناس وما أدري ما هذا؟!
نماذج لبعض العائنين والمعيونين
العين ليست قاصرة على الحاسدين، فقد يعين الرجل الصالح إذا أعجبه شيء ولم يبرِّك من حيث لا يشعر، قد يعين نفسه، أوولده، أوماله، أوغيرهم.
قال ابن القيم: (وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته).
وقـال القرطبي: (إن الرجل الصـالح قد يكون عائنـاً، وأن هذا ليس من بـاب الصـلاح ولا من بـاب الفسـق في شيء).72
ولكن أغلب ضرر العائنين يأتي من الحاسدين الحاقدين، وإليك هذه النماذج من الصالحين وغيرهم:
1. عامر بن ربيعة عان سهل بن حُنَيف حتى سقط إلى الأرض رضي الله عنهما، وقد مر.
2. سعد بن أبي وقاص عانته امرأة عندما خرج يوماً وهو أمير الكوفة، فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا لأهضم الكشحين، فرجع إلى منزله فوعك، ثم إنه بلغه ما قالت، فأرسل إليها، فغسلت له أطرافها ثم اغتسل به، فذهب ذلك عنه.
والكشح ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهو من لدن السرة إلى المتن، وهو موقع السيف من المتقلد، وأهضم الكشحين أي دقيق الخصرين73.
3. من العائنين المشهورين هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، فقد عان سالم بن عبد الله بن عمر، حكى المدائني عن الأصمعي قال: حج هشام بن عبد الملك فأتى المدينة، فدخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده قال هشام: ما رايت ابن سبعين أحسن كدنة منه! فلما صار سالم في منزله حُمَّ، فقال: أترون أن الأحول لقعني بعينه؟ فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.74
4. وذكر القاضي حسين من الشافعية أن نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله تعالى منهم مائة ألف في ليلة واحدة، فلما أصبح شكا إلى الله ذلك، فقال الله تعالى له: إنك لما استكثرتهم عنتهم فهلا حصنتهم؟
5. وقال الدميري في حياة الحيوان75 له: رأيت بخط بعض العلماء المتقدمين من المبرزين أنه كان بخرسان رجل عائن، فجلس يوماً إلى جماعة فمر بهم قطار جِمَال، فقال العائن من أي جمل تريدون أن أطعمكم من لحمه؟ فأشاروا إلى جمل من أحسنها، فنظر إليه العائن فوقع الجمل لساعته.
6. وروى ابن عبد البر بسنده إلى سحيم بن نوفل قال: كنا عند عبد الله نعرض المصاحف فجاءت جارية أعرابية إلى رجل منا فقالت: إن فلاناً قد لقع مهرك بعينه فهو يدور في فلك، لا يأكل، ولا يشرب، ولا يبول، ولا يروث، فالتمس له راقياً؛ فقال عبد الله: لا تلتمس له راقياً، ولكن ائته فانفخ في منخره الأيمن أربعاً، وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: لا بأس، أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا يكشف الضر إلا أنت؛ فقام الرجل فانطلق، فما برحنا حتى رجع، فقال لعبد الله: الذي أمرتني به، فما برحت حتى أكل، وشرب، وبال، وراث.76
7. وقال ابن عبد البر: روينا عن الأصمعي أنه قال: رأيت رجلاً عيوناً سمع بقرة تحلب فأعجبه صوت شخبها، فقال: أيتهن هذه؟ قالوا: الفلانية؛ لبقرة أخرى يورُّون عنها، فهلكتا جميعاً، المورَّى بها والمورَّى عنها.77
وقال الأصمعي: وسمعته يقول: إذا رأيتُ الشيء يعجبني وجدتُ حرارة تخرج من عيني.78
8. وقال الأصمعي: وكان عندنا رجلان يعينان الناس، فمر أحدهما بحوض من حجارة، فقال: تالله ما رأيت كاليوم قط؛ فطار الحوض فرقتين، فأخذه أهله، فصبوه بالحديد، فمر عليه ثانية، فقال: وأبيك لعل ما أضررت أهلك فيك؛ فتطاير أربع فرق.79
9. قال: وأما الآخر فسمع صوت بول من وراء حائط، فقال: إنه لبن الشخب؛ فقالوا: إنه فلان، ابنك! فقال: وانقطاع ظهراه؛ قالوا: إنه لا بأس عليه؛ قال: لا يبول بعدها أبداً؛ فما بال حتى مات.80
الحجر على من عرف بالإصابة بالعين من مداخلة الناس
ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين:
1. يحجر عليه ويمنع من مداخلة الناس ويمنع من شهود الجمع والجماعات، وينفق عليه من بيت المال إن كان فقيراً.
2. لا يحجر عليه.
قال القرطبي: (من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعاً لضرره، وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس، وقيل إنه ينفى، وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال، فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائناً، ولا يقدح فيه ولا يفسق به، ومن قال يحبس ويؤمر بلزوم بيته فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم).81
وقال ابن مفلح: (وللإمام حبس العائن، ذكره في "الترغيب"، وفي "الرعاية": من عرف بأذى الناس حتى بعينه ولم يكف حُبس حتى يموت؛ فظاهره يجب أويستحب لما فيه من المصلحة وكف الأذى، ونفقته من بيت المال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحبسه، وفي "الأحكام السلطانية": للوالي فعله ليدفع ضرره لا للقاضي.
قال القاضي عياض: ينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم بيته، ويرزقه إن كان فقيراً، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعدم الاختلاط بالناس، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها، بحيث لا يتأذى بها أحد، قال أبو زكريا النووي: هذا صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه).82
من ثبت أنه قتل بعينه هل يقتاد منه ويقتص أم لا ؟
الراجح أنه لا قَوَد عليه ولا دية ولا كفارة، والله أعلم.
قال الدميري الشافعي: (العائن إذا اعترف أنه قتل غيره بالعين فلا قوَد عليه، ولا دية، ولا كفارة، وإن كانت العين حقاً، لأنه لا يفضي إلى القتل غالباً، ويندب للعائن أن يدعو له بالبركة).83
اللهم صلى على محمدوعلى آله وصحبه
اتمنى اني وفقت فيما نقلت
[/align]